يسعد محمد حمدان دقلو (حميدتي) الذي دفع به الحاكم العسكري للسودان عبد الفتاح البرهان إلى صدارة المشهد الحكومي والسياسي في السودان، بأن يسبق اسمه حرفا “ف. أ.” ويحلو له العيش في وهم أن الحرفين يرمزان إلى رتبة فريق أول العسكرية، في حين أن تفكيكها الدقيق يقول إنها ترمز إلى “فريق افتراضي”، لأنه ليس أهلا لحمل أي لقب عسكري نظامي متعارف عليه، ومثل حميدتي في السودان يسمونه “فرحان” ويقصدون بها الشخص الذي يتباهى بما عنده وما ليس عنده.
وهناك جريمتان لن يغفرهما التاريخ أو أهل السودان لحكومة حزب المؤتمر الوطني برئاسة عمر البشير (1989- 2019) التي أطاحت بها ثورة شعبية، وهما فصل جنوب السودان، وإضفاء الطابع القانوني على مليشيا قبلية دموية صارت تعرف بقوات الدعم السريع، ويقودها حميدتي وأفراد عائلته، وهي قوات ليس في سجلها ما يشرف شخصا سويّاً أو شعبا، وهي المتكأ الذي يعول عليه حميدتي في تحقيق طموح حكم السودان، لا لأنه يملك رؤية للحكم أو لأن قلبه على الوطن، ولكن فقط لأنه وكما يقول السودانيون عن شخص نال أمرا عن غير استحقاق ودون بذل جهد: “قام من نومه ولقِيَ كَومَه”، ففي سياق مسعاه لنصب نفسه رئيسا للسودان استعان به البرهان، لإدراكه أن قوات الدعم السريع مرعبة ورهن إشارة آل دقلو، وستعينه على سحق خصومه (ولم تخيب تلك القوات ظن البرهان حتى الساعة).
لحميدتي طواقم من المستشارين ومعلمي القراءة والكتابة (صار يحسن القراءة بتقدير “وسط”، ولكن بينه وبين إتقان الكتابة خرط القتاد، وكل ما رأى توقيعه الشخصي على مستند هتف: اللهم إن كان سحراً فأبطله)، وكل الشواهد والقرائن تؤكد أن المستشارين أولئك هم من يزينون لحميدتي أمر وصوله إلى سدة الرئاسة، ليس لأنهم مقتنعون أنه أهل لها، ولكن لأنهم مأجورون، وينالون عطايا سخية من الثروات التي هبطت على حميدتي بعد عام 2013، بعد أن استرضاه نظام عمر البشير عندما “حرن” وهدد باعتزال القتال لصالح النظام، فسمحوا له بوضع يده على ثروات البلاد المعدنية والدخول في نشاط تجاري حر من أي قيد أو رقابة رسمية.
والمؤكد أن أولئك المستشارين وبعضهم متمرس في مجالات التخصص باتوا يعرفون أن حميدتي يريد منهم أن يشوروا عليه فقط بما يروق له، ومن ثم باتوا يؤكدون له أن هناك سوابق في أفريقيا لأشخاص يماثلونه من حيث المؤهل، أو بالأحرى عدم المؤهل، صاروا رؤساء لبلادهم بقوة السلاح، ومنهم الرقيب صمويل دو الذي قاد انقلابا على حكومة بلاده (ليبيريا) في 1980، قتل خلال يومه الأول رئيس الدولة و13 من الوزراء، ثم قفز بالزانة من رتبة رقيب إلى جنرال (فريق أول)، ثم أضفى على نفسه لقب طبيب ومنح نفسه درجة البكالريوس (دون أن يحدد مجال تلك الدرجة)، وظل يحكم بالحديد والنار، حتى اندلعت حرب أهلية في البلاد أنهت سلطته وتم إعدامه بالتقسيط الخشن: قطع أعضاء جسمه أمام الكاميرات.
وفي أفريقيا الوسطى كان هناك جان بيدل بوكاسا، الذي كان جنديا حافيا (أي بلا رتبة) في الجيش الفرنسي حتى عام 1960، حيث وبإيعاز من فرنسا التي ارتقت به من رتبة جندي إلى نقيب، استولى على الحكم وصار رئيسا للبلاد، ولما رفضت فرنسا قراره بالتحول من رئيس إلى إمبراطور، لجأ إلى الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي الذي أجزل له العطاء، وبارك وموَّل تنصيبه إمبراطورا فاعتنق الإسلام وأسمى نفسه صلاح الدين، ولما طلب منه القذافي الخضوع للختان ارتد عن الإسلام، وبلغت به القسوة مع “الخصوم” أنه أعدم المئات من الطلاب لأنهم رفضوا شراء الأزياء المدرسية التي كان مصنع تملكه زوجته ينتجها؛ وضاقت به فرنسا وانقلبت عليه في عام 1979 وحوكم بالإعدام ثم تم تخفيف الحكم إلى السجن المؤبد.
أما في الكونغو فقد كان الرجل الذي ربما يرى مستشارو حميدتي أن زعيمهم لا يقل شأنا عنه، هو جوزيف موبوتو الذي كان جنديا برتبة عريف في الجيش البلجيكي، ولكن وبعد الاستقلال ووصول باتريس لوممبا إلى سدة الرئاسة، وسعيه لتحرير موارد البلاد الاقتصادية من قبضة البلجيك، ساعدت بلجيكا موبوتو في الانقلاب على لوممبا ونصبته رئيسا على الكونغو، وشغل المنصب ما بين 1965 و1997 وغير اسم الدولة إلى زائير ثم إلى كنشاسا. وأقام نظام حكم دموي باطش، ولكن عين الرضا الأمريكية والبلجيكية كانت عن عيوبه كليلة، لأنه شارك بضراوة في الجهود الأوروبية والأمريكية لسحق حركات التحرر الوطنية في أنغولا وموزمبيق وجنوب أفريقيا وروديسيا الشمالية والجنوبية (اللتين صارتا لاحقا زامبيا وزيمبابوي على التوالي).
وبلغ الغرور بموبوتو أنه اختار لنفسه اسما هو موبوتو سي سيكو كوكو نغابيندو وا زا بانغا، ويعني “موبوتو المجاهد الذي سينتصر، ثم ينتصر دون أن يستطيع شخص إيقافه”، ولكن تحالفا عسكريا لقوى المعارضة تمكن من “إيقافه” فهرب إلى توغو ومنها إلى المغرب حيث مات منبوذا.
وعلى شاكلة هؤلاء كان اليوغندي عيدي أمين الذي كان جنديا في الجيش البريطاني، وعند استقلال بلاده عام 1962 ولعدم وجود ضباط من أهل البلاد، منحه البريطانيون رتبة ملازم أول، وفي ظل تلك الفجوة في الرتب العسكرية استطاع أن يشق طريقه خلال ثلاث سنوات إلى رتبة لواء، وكان ذلك دون طموحه فقاد انقلابا عسكريا ناجحا جعل منه رئيسا للبلاد في 1971، وكان أكثر القادة الأفارقة دموية، وتقول تقارير المنظمات الحقوقية إنه قتل نصف مليون شخص من مواطني بلده، واضطر إلى الهرب من بلاده في وجه هجوم كاسح على نظام حكمه من معارضيه عام 1979 ولجأ إلى السعودية حيث توفي عام 2003.
ولكن الفرق بين حميدتي والقادة الأفارقة الأربعة الوارد ذكرهم أعلاه، هو أنهم كانوا عسكريين حقيقيين، وعلى تدني رتبهم العسكرية كانوا قد تلقوا تدريبا عسكريا حقيقيا ومارسوا الجندية ضمن جيوش نظامية عالية التأهيل، بينما قفز حميدتي من تاجر بسيط للبهائم والدواب، إلى الرتب العالية بلا سند من تعليم أو تدريب، وبدون تدرج، ومع هذا فهو دونهم قدرة وقامة وقيمة، ولكن يبدو أنه يؤمن بالمثل القائل بأنه “الحظ لما يواتي، الأعمى يصير ساعاتي”.